فصل: تفسير الآية رقم (44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)}
عَرَفَ أَنَّ نجاتَه من القَطْرةِ لمَّا تقَاطرَتْ ليست بالحِيَلِ- وإنْ تَنوّعَتْ وكَثُرَتْ، فباسم اللّهِ سلامتُه، وبتوكلِه على الله نجاتُه وراحتُه، وبتفضله- سبحانه- صلاحُه وعافيته.
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)}
وكان في معزل بظاهره، وكان في سرِّ تقديره أيضًا بمعزلٍ عما سبق لنوح وقومه ما سابق فضله. فحينما نطق بِلسانِ الشفقةِ وقال: {يَآبُنَيَ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ}- لم يقل له: ولا تكن من الكافرين؛ لأن حالته كانت مُلْتَبِسةُ على نوح إذ كان ابنُه ينافقه- فقيل له: يا نوح إنه مع الكافرين لأنه في سابق حُكْمِنا من الكافرين.
{قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)}
أَخْطأَ مِنْ وجهين: رأى الهلاكَ من الماءِ وكان مِنَ اللَّهِ، ورأى النجاةَ والعِصمةَ من الجبل وهما من الله، فقال له نوح: لا عاصِمَ اليومَ من أمرِ الله. قيل أراد لا معصومَ اليوم من الله. وقيل لا أحدَ يَعْصِم أحدًا من أمر الله، لكنْ مَنْ رَحِمَه ربُّه فهو معصومٌ من ذلك، وله عاصمٌ وهو الله.
ولقد كان نوح عليه السلام مع ابنه في هذه المخاطبات فجاءت أمواجُ الماءِ وحالَتْ بينهما وصار من المُغْرَقِين، فلا وعظُه ونُصْحُه نفعاه، ولا قولُه وتذكيره نَجَّيَاه وخَلصَّاه.
ويقال احتمل أن لو قيل له نوح عرَّفْنَا العَالَم بدعائك ولا عليكَ إِنْ عَرَفَ. اهـ.

.تفسير الآية رقم (44):

قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان كل شيء دون مقام الجلال والكبرياء والعزة بأمر لا يعلمه إلا الله، دل على ذلك بأداة البعد فقال: {يا أرض ابلعي} أي اجذبي من غير مضغ إلى مكان خفي بالتدريج، وعين المبلوع لئلا يعم فتبتلع كل شيء على ظهرها من جبل وغيره، ولذلك أفرد ولم يجمع فقال: {ماءك} أي الذي تجدد على ظهرك للإغراق ليكون كالغذاء للآكل الذي يقوي بدنه فيقوى به على الإنبات وسائر المنافع وجعله ماءها لاتصاله بها اتصال الملك بالمالك: {ويا سماء أقلعي} أي أمسكي عن الإمطار، ففعلتا مبادرتين لأمر الملك الذي لا يخرج عن مراده شيء: {وغيض الماء} أي المعهود، حكم عليه بالدبوب في أعماق الأرض، من المتعدي فإنه يقال: غاض الماء وغاضه الله، كما يقال: نقض الشيء ونقضته أنا: {وقضي الأمر} أي فرغ وانبتّ وانبرم في إهلاك من هلك ونجاة من نجا كما أراد الجليل على ما تقدم به وعده نوحًا عليه السلام، لم يقدر أحد أن يحبسه عنهم ولا أن يصرفه ولا أن يؤخره دقيقة ولا أصغر منها.
فليحمد الله من أخر عنه العذاب ولا يقل ما {يحبسه} لئلا يأتيه مثل ما أتى هؤلاء أو من بعدهم: {واستوت} أي استقرت واعتدلت السفينة: {على الجودي} إشارة باسمه إلى أن الانتقام العام قد مضى، وما بقي إلا الجود بالماء والخير والخصب والرحمة العامة، وهو الجبل بالموصل بعد خمسة أشهر؛ قال قتادة: استقلت بهم لعشر خلون من رجب وكانت في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرت بهم على الجودي شهرًا، وهبط بهم يوم عاشوراء: {وقيل} أي إعلامًا بهوان المهلكين والراحة منهم: {بعدًا} هو من بعد- بالكسر مرادًا به البعد من حيث الهلاك، فإن حقيقته بعدُ بعيد لا يرجى منه عود، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء، وعبر بالمصدر لتعليقه باللام الدالة على الاستحقاق والختصاص: {للقوم} أي المعهودين في هذه القصة التي كان فيها من شدة القيام فيما يحاولونه ما لا يعلمه أحد إلا الله: {الظالمين} أي العريقين في الظلم، وهذه الآية تسع عشرة لفظة فيها أحد وعشرون نوعًا من البديع- عدها أبو حيان وقال: وروي أن أعرابيًا سمعها فقال: هذا كلام القادرين.
وذكر الرماني عدة من معانيها، منها إخراج الأمر على جهة التعظيم لفاعله من غير معاناة ولا لغوب، ومنا حسن تقابل المعاني، ومنها حسن ائتلاف الألفاظ، ومنها حسن البيان في تصوير الحال، ومنها الإيجاز من غير إخلال، ومنها تقبل الفهم على أتم الكمال؛ والبلع: إجراء الشيء في الحلق إلى الجوف؛ والإقلاع: إذهاب الشيء من أصله حتى لا يبقى له أثر؛ والغيض: غيبة الماء في ألأرض على جهة النشف وإبراز الكلام على البناء للمفعول أدل على الكبرياء والعظمة للفاعل للإشارة إلى أنه معلوم لأنه لا يقدر على مثل هذه الأفعال غيره، ونقل الأصبهاني عن صاحب المفتاح فيها كلامًا أغلى من الجوهر. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي}
اعلم أن المقصود من هذا الكلام وصف آخر لواقعة الطوفان، فكان التقدير أنه لما انتهى أمر الطوفإن قيل كذا وكذا: {يا أرض ابلعى مَاءكِ} يقال بلع الماء يبلعه بلعًا إذا شربه وابتلع الطعام ابتلاعًا إذا لم يمضغه، وقال أهل اللغة: الفصيح بلع بكسر اللام يبلع بفتحها: {ويا سماء أَقْلِعِى} يقال أقلع الرجل عن عمله إذا كف عنه، وأقلعت السماء بعدما مطرت إذا أمسكت: {وَغِيضَ الماء} يقال غاض الماء يغيض غيضًا ومغاضًا إذا نقص وغضته أنا وهذا من باب فعل الشيء وفعلته أنا ومثله جبر العظم وجبرته وفغر الفم وفغرته، ودلع اللسان ودلعته، ونقص الشيء ونقصته، فقوله: {وَغِيضَ الماء} أي نقص وما بقي منه شيء.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ كثيرة كل واحد منها دال على عظمة الله تعالى وعلو كبريائه: فأولها: قوله: {وَقِيلَ} وذلك لأن هذا يدل على أنه سبحانه في الجلال والعلو والعظمة، بحيث أنه متى قيل قيل لم ينصرف العقل إلا إليه ولم يتوجه الفكر إلا إلى أن ذلك القائل هو هو وهذا تنبيه من هذا الوجه، على أنه تقرر في العقول أنه لا حاكم في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والعالم السفلي إلا هو.
وثانيها: قوله: {يا أرض ابلعى مَاءكِ ويا سماء أَقْلِعِى} فإن الحس يدل على عظمة هذه الأجسام وشدتها وقوتها فإذا شعر العقل بوجود موجود قاهر لهذه الأجسام مستول عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد، صار ذلك سببًا لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله تعالى وعلو قهره، وكمال قدرته ومشيئته.
وثالثها: أن السماء والأرض من الجمادات فقوله: {يا أرض}، {ويا سماء} مشعر بحسب الظاهر، على أن أمره وتكليفه نافذ في الجمادات فعند هذا يحكم الوهم بأنه لما كان الأمر كذلك فلأن يكون أمره نافذًا على العقلاء كان أولى وليس مرادي منه أنه تعالى يأمر الجمادات فإن ذلك باطل بل المراد أن توجيه صيغة الأمر بحسب الظاهر على هذه الجمادات القوية الشديدة يقرر في الوهم نوع عظمته وجلاله تقريرًا كاملًا.
وأما قوله: {وَقُضِىَ الأمر} فالمراد أن الذي قضى به وقدره في الأزل قضاء جزمًا حتمًا فقد وقع تنبيهًا على أن كل ما قضى الله تعالى فهو واقع في وقته وأنه لا دافع لقضائه ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه.
فإن قيل: كيف يليق بحكمة الله تعالى أن يغرق الأطفال بسبب جرم الكفار؟
قلنا: الجواب عنه من وجهين: الأول: أن كثيرًا من المفسرين يقولون إن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ سنه إلى الأربعين.
ولقائل أن يقول: لو كان الأمر على ما ذكرتم، لكان ذلك آية عجيبة قاهرة.
ويبعد مع ظهورها استمرارهم على الكفر، وأيضًا فهب أنكم ذكرتم ما ذكرتم فما قولكم في إهلاك الطير والوحش مع أنه لا تكليف عليها ألبتة.
والجواب الثاني: وهو الحق أنه لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23] وأما المعتزلة فهم يقولون إنه تعالى أغرق الأطفال والحيوانات، وذلك يجري مجرى إذنه تعالى في ذبح هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة الشديدة.
وأما قوله تعالى: {واستوت عَلَى الجودى} فالمعنى واستوت السفينة على جبل بالجزيرة يقال له الجودي، وكان ذلك الجبل جبلًا منخفضًا، فكان استواء السفينة عليه دليلًا على انقطاع مادة ذلك الماء وكان ذلك الاستواء يوم عاشوراء.
وأما قوله تعالى: {وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين} ففيه وجهان: الأول: أنه من كلام الله تعالى قال لهم ذلك على سبيل اللعن والطرد.
والثاني: أن يكون ذلك من كلام نوح عليه السلام وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام ولأنه جار مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وقيل يا أرض ابلعي ماءَك}
جعل نزول الماء فيها بمنزلة البلع، ومعناه ابلعي الماء الذي عليك، فروى الحسن والحسين عليهما السلام أن بعض البقاع امتنع أن يبلع ماءه فصار ماؤه مرًا وترابه سبخا.
{ويا سماء أقلعي} أي لا تمطري، من قولهم أقلع عن الشيء إذا تركه.
{وغيض الماء} أي نقص حتى ذهبت زيادته عن الأرض: {وَقضي الأمر} يعني بهلاك من غرق من قوم نوح.
{وَاستوت} يعني السفينة.
{على الجودي} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه جبل بالموصل، قاله الضحاك.
الثاني: أنه جبل بالجزيرة، قاله مجاهد. قال قتادة. هو بباقردى من أرض الجزيرة.
الثالث: أن الجودي اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل:
سبحانه ثم سُبحانًا يعود له ** وقبلنا سبح الجوديُّ والجمد

. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك}
وقف قوم على ظاهر الآية، وقالوا: إِنما ابتلعت مانبع منها، ولم تبتلع ماء السماء، فصار ذلك بحارًا وأنهارًا، وهو معنى قول ابن عباس.
وذهب آخرون إِلى أن المراد: ابلعي ماءك الذي عليك، وهو ما نبع من الأرض ونزل من السماء، وذلك بعد أن غرق ما على وجه الأرض.
قوله تعالى: {ويا سماء أقلعي} أي: أمسكي عن إِنزال الماء.
قال ابن الأنباري: لما تقدم ذكر الماء، عُلم أن المعنى: أقلعي عن إِنزال الماء.
قوله تعالى: {وغيض الماء} أي: نقص.
قال الزجاج: يقال: غاض الماء يغيض: إِذا غاب في الأرض.
ويجوز إِشمام الضم في الغين.
قوله تعالى: {وقضي الأمر} قال ابن عباس: غرق مَنْ غرق، ونجا مَنْ نجا.
وقال مجاهد: قضي الأمر: هلاك قوم نوح.
وقال ابن قتيبة: {وقضي الأمر} أي: فرغ منه.
قال ابن الأنباري: والمعنى: أُحكمتْ هلكة قوم نوح، فلما دلت القصة على ما يبيِّن هلكتهم، أغنى عن نعت الأمر.
قوله تعالى: {واستوت} يعني السفينة: {على الجوديّ} وهو اسم جبل.
وقرأ الأعمش، وابن أبي عبلة: {على الجودي} بسكون الياء.
قال ابن الأنباري: وتشديد الياء في {الجوديّ} لأنها ياء النسبة، فهي كالياء في علوي، وهاشمي.
وقد خففها بعض القراء.
ومن العرب من يخفف ياء النسبة، فيسكنها في الرفع، والخفض، ويفتحها في النصب، فيقول: قام زيد العلوي، ورأيت زيدًا العلوي.
قال ابن عباس: درات السفينة بالبيت أربعين يومًا، ثم وجهها الله إِلى الجودي فاستقرت عليه.
واختلفوا أين هذا الجبل على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه بالموصل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك.
والثاني: بالجزيرة، قاله مجاهد، وقتادة.
وقال مقاتل: هو بالجزيرة قريب من الموصل.
والثالث: أنه بناحية آمِد، قاله الزجاج.
وفي علة استوائها عليه قولان:
أحدهما: أنه لم يغرق، لأن الجبال تشامخت يومئذ وتطاولت، وتواضع هو فلم يغرق، فأرست عليه، قاله مجاهد.
والثاني: أنه لما قلَّ الماء أَرْسَتْ عليه، فكان استواؤها عليه دلالة على قلة الماء.
قوله تعالى: {وقيل بُعْدًا للقوم الظالمين} قال ابن عباس: بُعدًا من رحمة الله للقوم الكافرين.
فإن قيل: ما ذنب من أُغرق من البهائم والأطفال؟ فالجواب: أنَّ آجالهم حضرت، فأُميتوا بالغرق، قاله الضحاك، وابن جريج. اهـ.